كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال بعضهم: إنها مستديرة وهو قول جميع المهندسين والغزالي رحمه الله تعالى حيث قال: ونحن نوافقهم في ذلك فإنّ لهم عليّ دليلًا من المحسوسات ومخالفة الحس لا تجوز، وإن كان في الباب خبر يؤّول بما يحتمله فضلًا عن أن ليس في القرآن والخبر ما يدل على ذلك صريحًا بل فيه ما يدل على الاستدارة كقوله تعالى: {كل في فلك يسبحون}.
والفلك اسم لشيء مستدير بل الواجب أنّ السموات سواء كانت مستديرة أو صفيحة مستقيمة هي مخلوقة لله تعالى باختيار لا بإيجاب وطبع، ولما ذكر تعالى العمد المقلة ذكر الأوتاد المقرّة بقوله تعالى: {وألقى في الأرض} أي: التي أنتم عليها جبالًا {رواسي} والعجب أنها من فوقها وجميع الرواسي التي تعرفونها تكون من تحت تثبتها عن {أن تميد} أي: تتحرك {بكم} كما هو شأن ما على ظهر الماء {وبث} أي: فرّق {فيها من كل دابة} وقوله تعالى: {وأنزلنا} أي: بما لنا من القوّة {من السما ماء} فيه التفات عن الغيبة، ولما تسبب عن ذلك تدبير الأقوات وكان من آثار الحكمة التابعة للعلم دل عليه بقوله تعالى: {فأنبتنا} أي: بما لنا من العلوّ في الحكمة {فيها} أي: الأرض بخلط الماء بترابها {من كل زوج} أي: صنف من النبات متشابه {كريم} بما له من البهجة والنضرة الجالبة للسرور، وفي هذا دليل على عزته التي هي كمال القدرة، وحكمته التي هل كمال العلم مهدبه قاعدة التوحيد وقرّرها بقوله تعالى: {هذا} أي: الذي تشاهدونه كله {خلق الله} أي: الذي له جميع الكمال فلا كفء له، فإن ادعيتم ذلك {فأروني ماذا خلق الذين من دونه} أي: غيره، بكتهم بأنّ هذه الأشياء العظيمة مما خلقه تعالى وأنشأه، فأروني ما خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة.
تنبيه:
ما استفهام إنكار مبتدأ وذا بمعنى الذي بصلته خبره، وأروني معلق عن العمل، وما بعده سدّ مسدّ المفعولين، ثم أضرب عن تبكيتهم بقوله تعالى: {بل} منبهًا على أنّ الجواب ليس لهم خلق هكذا كان الأصل ولكنه قال تعالى: {الظالمون} أي: العريقون في الظلم تعميمًا وتنبيهًا على الوصف الذي أوجب لهم كونهم {في ضلال} عظيم جدًّا محيط بهم {مبين} أي: في غاية الوضوح وهو كونهم يضعون الأشياء في غير مواضعها لأنهم في مثل الظلام لا نور لهم لانحجاب شمس الأنوار عنهم بجبل الهوى فلا حكمة لهم، ثم إنه تعالى لما نفاها عنهم أثبتها لبعض أوليائه بقوله تعالى: {ولقد آتينا} بما لنا من العظمة والحكمة {لقمان} وهو عبد من عبيدنا المطيعين لنا {الحكمة} وهو العلم المؤيد بالعمل أو العمل المحكم بالعلم، قال ابن قتيبة: لا يقال لشخص حكيم حتى يجتمع له الحكمة في القول والفعل.
قال: ولا يسمى المتكلم بالحكمة حكيمًا حتى يكون عاملًا بها، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي العقل والفهم والفطنة، واختلف في نسبه وفي سبب حكمته فقيل: هو لقمان بن باعورا ابن أخت أيوب عليه السلام أو ابن خالته، وقيل: كان من أولاد آزر وعاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ عنه العلم وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام فلما بعث قطع الفتوى فقيل: له فقال ألا أكتفي إذا كفيت، وقيل كان قاضيًا في بني إسرائيل وأكثر الأقاويل أنه كان حكيمًا ولم يكن نبيًا.
أخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه سئل أكان لقمان نبيًا قال: لا لم يوح إليه وكان رجلًا حكيمًا، وعن ابن عباس: لقمان لم يكن نبيًا ولا ملكًا ولكن كان راعيًا أسود ورزقه الله تعالى العتق ورضي قوله ووصيته فقص أمره في القرآن لتتمسكوا بوصيته، وقال ابن المسيب: كان أسود من سودان مصر خياطًا، وقال مجاهد: كان عبدًا أسود غليظ الشفتين مشقق القدمين، وقيل كان نجارًا، وقيل كان راعيًا، وقيل كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة حطب، وقال عكرمة والشعبي: كان نبيًا، وقيل خير بين النبوّة والحكمة، فاختار الحكمة، وعنه أنه قال لرجل ينظر إليه إن كنت تراني أسود فقلبي أبيض، وعن عكرمة قال: كان لقمان أهون مملوك على سيده وأوّل ما رؤي من حكمته أنه بينما هو مع مولاه إذ دخل المخرج وأطال فيه الجلوس فنادى لقمان أنّ طول الجلوس على الحاجة يسيح منه الكبد ويكون منه الباسور ويصعد الحرّ إلى الرأس فخرج وكتب حكمته على الحش. قال: وسكر مولاه فخاطر قومًا على أن يشرب ماء بحيرة فلما أفاق عرف ما وقع منه فدعا لقمان فقال لمثل هذا كنت أخبؤك قال اجمعهم فلما اجتمعوا قال على أي. شيء خاطرتموه. قالوا: على أن يشرب ماء هذه البحيرة. قال: فإن لها موادًّا فاحبسوا موادها عنه، قال: وكيف نستطيع أن نحبس موادها. قال: فكيف يستطيع أن يشربها ولها مواد.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي مسلم الخولاني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لقمان كان عبدًا كثير التفكر، حسن الظنّ، كثير الصمت، أحب الله فأحبه الله فمنّ عليه بالحكمة نودي بالخلافة قبل داوود فقيل له يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس. قال لقمان: إن أجبرني ربي قبلت فإني أعلم أنه إن فعل ذلك أعانني وعلمني وعصمني، وإن خيرني اخترت العافية ولم أسأل البلاء فقالت الملائكة: يا لقمان لم؟ قال: لأنّ الحاكم بأشدّ المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان فيخذل أو يعان، فإن أصاب فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلًا فهو خير من أن يكون شريفًا ضائعًا، ومن تخير الدنيا على الآخرة. نفته الدنيا ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه وهو يتكلم بها، ثم نودي داود بعده بالخلافة فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان فوقع في الذي حكاه الله عنه فصفح الله تعالى عنه وتجاوز، وكان لقمان يؤازره أي: يساعده بعلمه وحكمته فقال داود طوبى لك يا لقمان أوتيت الحكمة فصرفت عنك البلية وأوتي داود الخلافة فابتلى بالذنب والفتنة».
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: «خير الله تعالى لقمان بين الحكمة والنبوّة فاختار الحكمة فأتاه جبريل وهو نائم فذرّ عليه الحكمة فأصبح ينطق بها فقيل له: كيف اخترت الحكمة على النبوّة وقد خيرك ربك؛ فقال إنه لو أرسل إلي بالنبوّة عزمة لرجوت فيها الفوز منه ولكنت أرجو أن أقوم بها ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوّة فكانت الحكمة أحب إليّ». وروي أنه دخل على داود وهو يصنع الدروع وقد لين الله له الحديد كالطين فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله. فقال له داود لحق ما سميت حكيمًا، وروي أنّ مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين فأخرج اللسان والقلب ثم أمره بمثل ذلك وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب فسأله عن ذلك فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا وأخبث ما فيها إذا خبثا، وروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال ألست فلان الراعي فيم بلغت ما بلغت قال بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني، وعن ابن المسيب أنه قال لأسود: لا تحزن فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان بلال ومهجع مولى عمر ولقمان كان أسود نوبيًا ذا مشافر، وروي سادات السودان أربعة لقمان الحبشي والنجاشي وبلال ومهجع.
وعن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في العزلة وواحد في الصمت» وقال لقمان لا مال كصحة ولا نعيم كطيب نفس، وقال ضرب الوالد لولده كالسماد للزرع، ولما كانت الحكمة هي الإقبال على الله قال الله تعالى: {أن اشكر لله} أي: وقلنا له أن أشكر لله على ما أعطاك من الحكمة {ومن يشكر} أي: يجدّد الشكر ويتعاهده بنفسه كائنًا من كان {فإنما يشكر لنفسه} أي: لأنّ ثواب شكره له {ومن كفر} أي: النعمة {فإن الله غني} عن الشكر وغيره {حميد} أي: له جميع المحامد وإن كفره جميع الخلق.
{و} اذكر {إذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني} تصغير إشفاق، وقرأ حفص بفتح الياء وسكنها ابن كثير، وكسرها الباقون {لا تشرك بالله} أي: الملك الأعظم {إن الشرك} أي: بالله {لظلم عظيم} فرجع إليه وأسلم ثم قال له أيضًا: يا بني اتخذ تقوى الله تعالى تجارة يأتيك الفرج من غير بضاعة، يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس، فإنّ الجنائز تذكر الآخرة والعرس يشهيك الدنيا، يا بني لا تأكل شبعًا من شبع فاتك أن تلقيه للكلب خير من أن تأكله، يا بني لا تكونن أعجز من هذا الديك الذي يصوّت بالأسحار وأنت النائم على فراشك، يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة، يا بنيّ لا ترغب في ودّ الجاهل فترى أنك ترضى عمله، يا بنيّ اتق الله ولا تُري الناس أنك تخشى ليكرموك بذلك وقلبك فاجر، يا بني ما ندمت على الصمت قط فإنّ الكلام إذا كان من فضة كان السكوت من ذهب، يا بني اعتزل الشر كيما يعتزلك فإنّ الشرّ للشرّ خلف، يا بني إياك وشدّة الغضب فإنّ شدّة الغضب ممحقة لفؤاد الحكيم، يا بني عليك بمجالس العلماء واستمع كلام الحكماء فإن الله تعالى يحي القلب الميت بنور الحكمة كما يحي الأرض بوابل المطر فإن من كذب ذهب ماء وجهه ومن ساء خلقه كثر غمه، ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم، يا بني لا ترسل رسولًا جاهلًا فإن لم تجد حكيمًا فكن رسول نفسك، يا بني لا تنكح أمة غيرك فتورث بنيك حزنًا طويلًا، يا بني يأتي على الناس زمان لا تقرّ فيه عين حليم، يا بني اختر المجالس على عينك فإذا رأيت المجلس يذكر فيه الله عز وجلّ فاجلس معهم فإنك إن تك عالمًا ينفعك علمك، وإن تك غبيًا يعلموك، وإن يطلع الله عز وجلّ عليهم برحمة تصبك معهم، يا بنيّ لا تجلس في المجلس الذي لا يذكر فيه الله تعالى فإنك إن تكن عالمًا لا ينفعك علمك، وإن تكن غبيًا يزيدوك غباوة وإن يطلع الله تعالى عليهم بعد ذلك بسخط يصبك معهم، يا بني لا يأكل طعامك إلا الأتقياء وشاور في أمرك العلماء، يا بني إنّ الدنيا أمر عميق وقد غرق فيها ناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الإيمان بالله، وشراعها التوكل على الله لعلك أن تنجو ولا أراك ناجيًا، يا بني إني حملت الجندل والحديد فلم أحمل شيئًا أثقل من جار السوء، وذقت المرارة كلها فلم أذق أشد من الفقر، يا بني كن ممن لا يبتغي محمدة الناس ولا يكسب مذمتهم فنفسه عنهم في غنى والناس منه في راحة، يا بُنَّي إنّ الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك، يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإنّ الله ليحي القلوب بنور الحكمة كما يحي الأرض الميتة بوابل السماء، يا بني لا تتعلم ما لا تعلم حتى تعمل بما تعلم، يا بني إذا أردت أن تواخي رجلًا فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره، يا بني إنك منذ نزلت إلى الدنيا استدبرتها واستقبلت الآخرة فدار أنت إليها تسير أقرب من دار أنت عنها تباعد، يا بني عود لسانك أن يقول: اللهم اغفر لي فإن لله ساعات لا ترد، يا بني إياك والدين فإنه ذل النهار وهم الليل، يا بني ارج الله رجاء لا يجرئك على معصيته وخف الله خوفًا لا يؤيسك من رحمته ا.ه. وإنما أكثرت من ذلك لعل الله ينفعنى ومن طالعه بذلك، وسيأتي في كلام الله تعالى زيادة على ذلك واقتصرت على هذا القدر وإلا فمواعظه لابنه لو أراد شخص الإكثار منها لجعل منها مجلدات.
فقد أخرج ابن أبي الدنيا عن حفص بن عمر الكندي قال: وضع لقمان عليه السلام جرابًا من خردل إلى جنبه وجعل يعظ ابنه موعظة ويخرج خردلة فنفذ الخردل فقال: يا بني وعظتك موعظة لو وعظتها جبلًا لتفطر فتفطر ابنه. فسبحان من يعز ويذل، ويغني ويفقر، ويشفي ويمرض، ويرفع من يشاء وإن كان عبدًا فلا بدع أن يخص محمدًا صلى الله عليه وسلم ذا النسب العالي والمنصب المنيف بالرسالة من بين قريش وإن لم يكن من أهل الدنيا المتعظمين بها، ولما ذكر سبحانه ما أوصى به ولده من شكر المنعم الأوّل الذي لم يشركه في إيجاده أحد وذكر ما عليه الشرك من الفظاعة والشناعة أتبعه وصيته سبحانه للولد بالوالد لكونه المنعم الثاني بالسببية في وجوده بقوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه} أي: أمرناه أن يبرهما ويطيعهما ويقوم بهما، ثم بين تعالى السبب في ذلك بقوله تعالى: {حملته أمه وهنًا} أي: حال كونها ذات وهن بحمله وبالغ في جعلها نفس الفعل دلالة على شدّة ذلك الضعف {على وهن} أي: ضعف الحمل، وضعف الطلق، وضعف الولادة، ثم أشار إلى ما لها عليه من المنة بعد ذلك بالشفقة وحسن الكفالة وهو لا يملك لنفسه شيئًا بقوله تعالى: {وفصاله} أي: فطامه من الرضاعة بعد وضعه {في عامين} تقاسي فيهما في منامه وقيامه ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى، فإن قيل وصى الله تعالى بالوالدين وذكر السبب في حق الأم مع أن الأب وجد منه أكثر من الأم لأنه حمله في صلبه سنين ورباه بكسبه سنين فهو أبلغ؟
أجيب: بأن المشقة الحاصلة للأم أعظم فإن الأب حمله خفيفًا لكونه من جملة جسده والأم حملته ثقيلًا آدميًا مودعًا فيها وبعد وضعه وتربيته ليلًا ونهارًا وبينهما ما لا يخفى من المشقة، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لمن قال له: من أبر؟: «أمك ثم أمك ثم أمك ثم قال بعد ذلك ثم أباك» وقوله تعالى: {أن اشكر لي} لأني المنعم في الحقيقة {ولوالديك} أي: لكوني جعلتهما سببًا لوجودك والإحسان بتربيتك تفسير لوصينا أو عدة له، ثم علل الأمر بالشكر محذرًا بقوله تعالى: {إليّ} لا إلى غيري {المصير} فأحاسبك على شركك ومعاصيك، وعن القيام بحقوقهما، قال سفيان بن عيينة في هذه الآية: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر لله، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر للوالدين، ولما ذكر تعالى وصيته بهما وأكد حقهما أتبعه الدليل على ما ذكر لقمان من قباحة الشرك بقوله تعالى: {وإن جاهداك} أي: مع ما أمرتك به من طاعتهما {على أن تشرك بي} وقوله تعالى: {وما ليس لك به علم} موافق للواقع لأنه لا يمكن أن يدل علم من أنواع العلوم على شيء من الشرك بل العلوم كلها دالة على الوحدانية، ولما قرر ذلك على هذا المنوال البديع قال مسببًا عنه {فلا تطعهما} أي: في ذلك ولو اجتمعا على المجاهدة لك عليه بل خالفهما، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به لأن أمرهما بذلك مناف للحكمة حامل على محض الجور والسفه ففيه تنبيه لقريش على محض الغلط في التقليد لآبائهم في ذلك، وربما أفهم ذلك الإعراض عنهما بالكلية فلهذا قال تعالى: {وصاحبهما في الدنيا} أي: في أمورها التي لا تتعلق بالدين ما دمت حيًا بها {معروفًا} ببرهما إن كانا على دين يقران عليه ومعاملتهما بالحلم والإحتمال وما تقتضيه مكارم الأخلاق ومعالي الشيم، ولما كان ذلك قد يجرّ إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة نفي ذلك بقوله تعالى: {واتبع} أي: بالغ في أن تتبع {سبيل} أي: دين وطريق {من أناب} أي: أقبل خاضعًا {إليّ} لم يلتفت إلى عبادة غيري وهم المخلصون، فإن ذلك لا يخرجك عن برهما ولا عن توحيد الله تعالى ولا عن الإخلاص له.
تنبيه:
في هذا حث على معرفة الرجال بالحق وأمر بحك المشايخ وغيرهم على محك الكتاب والسنة، فمن كان عمله موافقًا لهما اتبع، ومن كان عمله مخالفًا لهما اجتنب. وإذا كان مرجع أمورهم كلها إليه في الدنيا ففي الآخرة كذلك كما قال تعالى: {ثم إليّ} أي: في الآخرة {مرجعكم فأنبئكم} أي: أفعل فعل من يبالغ في التعقيب والاختبار عقب ذلك وتبيينه لأنّ ذلك أنسب شيء للحكمة وتعقب كل شيء بحسب ما يليق به {بما كنتم تعملون} أي: تجيددون عمله من صغير وكبير، وجليل وحقير، فأجازي من أريد وأغفر لمن أريد، فأعد لذلك عدته، ولا تعمل عمل من ليس له مرجع يحاسب فيه ويجازي على مثاقيل الذر من أعماله، والآيتان معترضتان في تضاعيف وصية لقمان تأكيدًا لما فيها من النهي عن الشرك كأنه قال تعالى: وصينا بمثل ما وصى به وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك فإنهما مع أنهما تلو الباري في استحقاق التعظيم والطاعة لا يجوز أن يتبعا في الإشراك فما ظنكم بغيرهما ونزولهما في سعد بن أبي وقاص وأمه مكثت لإسلامه ثلاثًا لم تطعم فيها شيئًا، ولذلك قيل من أناب إليّ هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه فإن سعدًا أسلم بدعوة أبي بكر له، ثم إن ابن لقمان قال لأبيه: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله تعالى فقال: {يا بني} مجيبًا له مستعطفًا مصغرًا له بالنسبة إلى حلم شيء من غضب الله تعالى: {إنها} أي: الخطيئة {إن تك} وأسقط النون لغرض الإيجاز في الإيصاء {مثقال} أي: وزن، ثم حقرها بقوله: {حبة} وزاد في ذلك بقوله: {من خردل} أي: إن تكن في الصغر كحبة الخردل، وقرأ نافع مثقال بالرفع على أنّ الهاء ضمير الخطيئة كما مر أو القصة وكان تامة، وتأنيثها الإضافة المثقال إلى الحبة كقول الأعشى:
وتشرق بالقول الذي قد ذكرته ** كما شرقت صدر القناة من الدم